الصويرة.. مدينة التاريخ والموسيقى والمتاحف وأمواج البحر الذي يكسّر على إيقاع صوت النوارس
قد يفتقر ميناء مدينة الصويرة إلى شهرة وعظمة موانئ المغرب الكبرى على غرار الدار البيضاء وطنجة وأكادير، لكن هذا بالضبط هو ما يجذب الزوار إليها. قوارب الصيد الخشبية البسيطة وهي تتهادى على ساحل المحيط الأطلسي تعطي الزائر شعوراً كبيرا بالارتياح والهدوء والقدرة على استرجاع الأنفاس بعد تعب، خصوصا لحظة الغروب حيث تلقي أشعة الشمس المحتضرة أضواءها على الأسوار وأبراج المراقبة التاريخية.
إنها مدينة صغيرة بأسرار كبيرة. يكفي أنه تم تصوير أعمال "عطيل" لأورسون ويلز فيها سنة 1951، ثم، بعد عقود، مشاهد من السلسلة الأضخم "لعبة العروش". لا تكتفي الصويرة بكونِها، في حد ذاتها لوحةً فنية، بل تضيف إلى هذا عادةً جميلة شبه دائمة تتمثل في تنظيم المعارض الفنية، مرفوقة بدور ضيافة أنيقة، مع بهارات بطعم لاذع ماتع تتمثل في مهرجان كناوة وموسيقى العالم طبعا.
تاريخ تليد
يعود تاريخ الصويرة إلى ما قبل الميلاد، حين كان الفنيقيون والقرطاجيون يقومون بالرّسوّ في جزيرة موغادور خلال سفرهم عبر البحر إلى الإكوادور. شهدت الصويرة في عهد ملك موريتانية الطنجية يوبا الثاني إنشاء أول معمل لصناعة الصباغات المستخرجة من المحار، والتي كان يصدرها للرومان. وإبان القرن السادس عشر، استقر بها البرتغاليون فأطلقوا عليها اسم موغادور، وآنئذٍ تم تحصينها من قبل ملك البرتغال مانويل الأول الذي أقام حصنا فيها عام 1506.
ويمكن اعتبار التأسيس الفعلي للمدينة، اسماً وأثراً، قد انطلق سنة 1765، عندما عندما أوكل السلطان العلوي محمد الثالث بن عبد الله مهمة إعادة بنائها في نسختها الحالية إلى تيودور كومود، لتصبح هي مدينة الصويرة التي نعرفها الآن.
السفر نحو الصويرة
تتوفر الصويرة على مطار صغير يبعد عن وسط المدينة بحوالي 17 كيلومترا، ويمكن السفر إليها من خارج المغرب عن طريق خطوط مباشرة من مدن أوروبية هي: باريس، بروكسيل، تولوز، بوردو وليون. وبشكل عام، فإن أسعار الرحلات الجوية نحو الصويرة مناسبة، خصوصا أن العديد من الشركات منخفضة التكلفة، توفر رحلات المباشرة إلى مَدينة الرياح.
وهذا لا يمنع من اتخاذ مسار مختلف، حيث يمكن النزول في مطار مراكش أو أكادير، قادماً من أي مكان في العالم، ثم التنقل نحو المدينة، إما عبر سيارات الأجرة الكبير أو الحافلة نحو الصويرة في رحلة تستغرق في المعتاد 3 ساعات. بالنسبة لأسعار النقل نحو الصويرة انطلاقا من مراكش، فهي عبر الحافلة في حدود 100 درهم مغربية (9 دولارات تقريبا)، أو في سيارات الأجرة الكبيرة التي يقل سعرها عن 9 دولارات للفرد.
التنقل داخل "موغادور"
للوصول إلى مركز المدينة عليك أن تستقل سيارة أجرة صغيرة بسعر في حدود 150 درهماً (14 دولارا) في رحلة تستغرق حوالي 20 دقيقة. إن كنت تفضل الحافلات العامة، فهناك حافلات تقل زوار المدينة من المطار بأسعار أرخص، على مدار اليوم. بالنسبة للتنقل داخل المدينة، فهناك الحافلات العامة أو سيارات الأجرة الصغيرة، وأسعارهما لا تتجاوز 10 دراهم في المجمل (دولار واحد).
خيارات الإقامة في المدينة
توفر مدينة الصويرة خيارات عديدة، بين شقق بسيطة يوفرها أصحابها بأثمان جد مناسبة تبتدئ أحيانا من 100 درهم (10 دولارات)، إلى دور ضيافة رائعة بطعم العراقة، وفنادق من مختلف التصنيفات من ثلاث وأربع وخمس نجوم حسب قدرة وميزانية كل سائح. وأغلب هذه الإقامات والفنادق تتواجد وسط المدينة، وبالتالي فالتنقل لا يكاد يعد مشكلة في هذه المدينة الباذخة. هذا، مع العلم أن للشباب والطلبة أيضا مكان في الصويرة، حيث يمكنك الإقامة في بيت الشباب بالمدينة، بأسعار منخفضة ومناسبة.
من أين تبدأ كي تتعرف أكثر على مدينة الصويرة؟
الصويرة مدينة صغيرة فعلا، لكنها كبيرة بتاريخها العريق. لذا، لا بأس أن تبدأ جولتك وتتوه وسط سقالة الميناء أو كما يطلق عليها "سقالة المرسى"، وهي عبارة عن ثكنة عسكرية قديمة تقع في قلب الميناء، وهي المعلمة التي بُنيت إبان القرن الثامن عشر كأحد التحصينات الدفاعية الرئيسية لإيواء العساكر والذخيرة وتلقي إمدادات المياه بهدف حماية الميناء من الهجمات البحرية المحتملة.
ستأخذك الجولة الساحرة نحو التعرف على الطراز الكلاسيكي الجديد للمباني العسكرية الأوروبية، خاصة ما تميز به ملك البرتغال مانويل الأول، والتي تتكون من جناحين محصنين بطول 200 متر يتقاطعان بزوايا قائمة، متصلين بباب المرسى المطل على البحر، حيث ستجد الزرقة والنوارس التي تحكي لك قصة تاريخ زاخر. وبعد أخذ نفسٍ عميق من هواء البحر وروائح السردين المشوي الشهية، يمكنك أن تعرّج على المدينة القديمة للصويرة أو "موكادو" في اسمها الأصلي.
ونظرا لأهميتها وقيمتها، انضمت المدينة القديمة إلى قائمة مواقع التراث العالمي من طرف اليونسكو سنة 2001. فالصويرة تعتبر مثالا حيّا لمدن القرن السابع عشر المحصنة بالمغرب وشمال إفريقيا وفقا للأسس الهندسية العسكرية لذلك العصر، ونموذجا لتمازج الهندستين الأوروبية والإسلامية.
أما الملاح أو الحي اليهودي، فهو شاهد على ميزة التعايش التي ظلت تطبع الشعب المغربي وثرائه الإثني والروحي، ويمكنك أن تستمع كثيراً بجولتك في هذا الحي الذي يرجع بناؤه للسلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي في نهاية القرن 16 الميلادي، والذي استقدم إليه نخبة من التجار اليهود لتنشيط مينائه التجاري، فعرف تاريخيا باسم ملاح تجار السلطان.
وقد تقودك الجولة إلى اكتشاف المقبرة اليهودية (الدخول بالمجان)، حيث يرقد حاييم بينتو السادس، وهو حاخام من القرن التاسع عشر وزعيم مجتمعي لا يزال يحترمه يهود الصويرة في الشتات، ثم واصل على طول شارع الملاح لتجد نفسك في مواجهة كنيس حاييم بينتو الصغير المشهور بغرفة الصلاة ذات البلاط الأزرق. وفي نهاية الجولة بحي الملاح، لا تنس زيارة متحف بيت الذاكرة، وهو نموذج ملموس للتعايش الذي طبَع المدينة بين ساكنيها من المسلمين واليهود.
أرخبيل موغادور
من عبق التاريخ إلى جمال الطبيعة وسحرها، يمكنك الانتقال إلى أرخبيل موكادور، عبر القوارب البسيطة، وهو عبارة عن صخرة كبيرة تتراءى لك على بعد كيلومتر واحد من المرفأ التاريخي لمدينة الرياح، وهو مكون من جزيرتين رئيسيتين و5 جزر صغرى.
وتقدم هذه الجزر منظرا جميلا متميزا وساحرا يستهوي عشاق الطبيعة والمهتمين بالتاريخ القديم من خلال تحصيناتها المنيعة ومدافعها العتيقة، إلى جانب مشاهد الطيور المهاجرة، وطيور النورس التي تلقي عليك التحية في الذهاب والرواح. وإن كنت، أخيرا، تريد أن تستريح من تعب يوم حافل، فلا بأس أن تعرج على ساحة مولاي الحسن، بوسط المدينة، لتتواصل مع أهل المدينة وتشاهد الحياة وهي تمتلأ صخباً في مساءات الصويرة التي لا تترك لك فرصة للملل.
مدينة الثقافة والمهرجانات
حالة من التوهان الجميل ستصيبك وأنت تكتشف معارض الصويرة الفنية الدائمة، فمن قصر "Le Real Mogador" الفخم، الذي يضم لوحات لفنانين مغاربة معاصرين، إلى "معرض القصبة" وهو الأكبر والأكثر انتقائية، والذي يضم مدارس فنية مختلفة يختلط فيها الواقع بالحلم السوريالي. كما ينقلك معرض "إليزير" إلى كوكتيل متفرد لكل ما هو قديم من ملصقات أفلام مصرية وكراسي على طراز سارينين، وأضواء كاشفة.
ماذا عن المهرجانات؟
إنها نقطة قوة مدينة الصويرة، ففيها ينظم واحد من أكبر المهرجانات في المغرب وهو مهرجان كناوة وموسيقى العالم الذي يستمر على مدى 3 أسابيع، ويحمل معه أنماطا مختلفة من الموسيقى. ومهرجان كناوة وموسيقى العالم هو مهرجان ينظم في شهر يونيو من كل سنة، ويقدم عروضاً موسيقية فريدة من نوعها، تروج لموسيقى كناوة وللموسيقى العالمية والتقليدية، وتُعزز ثراء التراث الموسيقي العالمي.
انتهت الجولة.. لم تنته الحكاية
حكاية الصويرة، حكاية طويلة وسرمدية. يصعب أن تنتهيَ بجولة عبر المدينة، فما لم تشاهده دائما أكثر مما شاهدته. لكن يمكنك أخيرا، بعد تعب يوم طويل، أن تجلس على أسوار المدينة العتيقة لتتأمل شمسَ الصويرة وهي تغرب مخلفة خلفها الكثير من أحلام العابرين، وعلى صوت النوارس وهي تتبادل عبارات الحب، وعودة الصيادين المرهقين، على وقع شاي مغربي دافئ بنكهة النعناع المغربي، أو حتى طبق سردين تقليدي.
تعليقات
بإمكانكم تغيير ترتيب الآراء حسب الاختيارات أسفله :